المدينة العربية القديمة

تمارس المدن مع زائريها دوراً آسراً خاصة تلك المدن العريقة والتي مرت بمنحنيات تاريخية هامة وعهود قديمة وتأثرت بها عمارتها ومبانيها وزواياها فلكل زاوية منها قصص ومواقف تجسد الكثير فتحمل في طياتها الكثير من أحداث الحياة مثقلة بما لا يمكن استيعابه فهي تشد الناظرين لتلك الزوايا وتبقيهم ساكنين للحظات وأحياناً قد تدوم تلك اللحظات وتستمر إلى مالا نهاية فتبقى العيون حائرة مأسورة دون أسر ويبقى الفكر يحلل كل زوايا الجمال بها والذي لم يتحقق سوى بالتوازن الذي أعطي قيمته الحقيقة من خلال استمرار كل شيء في كل مكان مع تغير الوظيفة دوماً, فالإيقاع على سبيل المثال يعتبر جزء من المدينة العربية متغلغل في ثناياها يأتي حيناً بشكل بطئ جداً ومتسمر وحيناً تجده مستمراً بشكل لا نهائي وأحيانا ينبهك الإيقاع أنه أصبح سريعاً تخال أنك لن تستطيع اللحاق به أو يضعك في حيرة لاعتداله فليس هنالك مستقر دائم أو متغير دائم, فالإيقاع يعطي العين متعة حقيقية للنظر تزداد مع اشتعال الحواس الأخرى من أجل استشعاره والإحساس به على عكس البعض الآخر من أطياف الجمال والتي تكون جامدة جداً كالتوافق مثلاً الذي قد يختفي كلياً في أحيان كثيرة فلا يكاد يظهر إلا إذا أدركته العين وأبصرته واضحاً على عكس الخصوصية التي ظلت دوماً في المدن العربية ظاهرة إلى حد أن تكون عنواناً لتلك المدن.

تستمر المدن العربية دوماً في تقديم المتعة من كل طيف من أطياف الجمال فاللون أيضاً جعل لها القدرة على تقديم البهجة لزائريها من خلال توحيد اللون أو تناقضه أو من خلال وضع المدينة بأكملها بشكل متجانس مع ما حولها وصولاً لحدود السماء أو حدود الأفق في اتجاه النظر فاللون حقيقة يخلق نوعا آخر من التناغم من خلال ارتباطه وعلاقته مع أطياف الجمال الأخرى كالإيقاع والتوافق والخصوصية والملمس ذلك الطيف الذي لن تغنيك عن الإحساس به مشاهدة مئات الصور ولكن يكفيك أن تمد يديك للحظات وتلامس تلك المدن القديمة لتستشعر ما يحدث حولك وتبدأ في تقدير ذلك الملمس فلا تصدق حواسك لتتأكد دوماً عند كل زاوية أو باب أو انحناءة لجدران استوعبت مع الزمن كل الأحاسيس من كل من مروا بها لتضعها في لحظة بين يديك وتهبك السعادة وإدراك تفسير الأشياء من حولك وتوازناتها و انسجامها مع الطبيعة وتقدم تجارب مختلفة عن الانجذاب والعاطفة والبهجة في عمق الوعي الحسي للإنسان, فالجمال ينشأ من تجربة صامتة للمدن القديمة والتي مهما أهملت ستبقى تعطي إلى أن تنتهي فهكذا بنيت بجمال وهكذا كان أهلها عطاء دون انتظار.

تذكرة مغادرة : يقول الكاتب : أنيس منصور “نوعان من الجمال : واحد ينطقك وواحد يفقدك النطق ! ”.

شارك الصفحة مع الأصدقاء :