حُسن الجوار في التراث العمراني

لا يمكن أن تعود بالذاكرة في التاريخ زمنا بعيدا عن تاريخ المدن سواء في ذاكرة وحديث كبار السن أو من عاصروهم من أبناء الأجيال التي تلتهم أو من خلال تناقل الأخبار إلا ووجدت أنها تفيض مشاعر شوق وحنين ليس فقط إلى مساكنهم ولكنها كذلك إلى جيرانهم والى طبيعة التعاملات التي كانت بينهم كسكان متجاورين في تلك الإحياء والمدن القديمة وقد تأثروا بذلك الجوار الحسن حتى أصبحت مناسبات صغيرهم وكبيرهم هي مناسبات للجميع سواء أفراح أو أتراح فتشاركوا مناسباتهم الخاصة والعامة وتعاونوا في إدارة شئونهم الاجتماعية المختلفة وتجاوزت ذلك إلى أن استخدموا منازل بعضهم وبرحاتهم وحتى أوانيهم وأثاث منازلهم للضيافة, إلا أن حسن الجوار لم يقف عند التعاملات الإنسانية بل أمتد من خلاله ليتشكل من خلال مبانيهم ومساكنهم التي أثرت على عمارتها وتشكلت معها انتماءات بسيطة يلجأ لها الإنسان بطبيعة وغريزة عفوية لتكون خلف مسميات لحارات وأحياء فصنعت لنا مدنا تحترم مبانيها حسن الجوار كثيرا وتصنع ممرات وأزقة وبرحات خاصة وشديدة الخصوصية وأخرى عامة يستخدمها الجميع من سكان وزوار .
لقد صنع حسن الجوار من خلال التراث العمراني قيما وأعرافا سادت ثم بادت حينما أختل توازن القيم جراء أنماط البناء الحديث والتخطيط الشبكي الذي لم تستوعبه مدننا حتى اليوم فمن تلك القيم التي صنعها حسن الجوار هي احترام الخصوصية ومدى المحافظة عليها فلم تكن مثلا الأبواب والنوافذ والشبابيك تفتح تجاه شباك الجار أو بابه مباشرة بل كانت تفتح الأبواب والنوافذ والشبابيك تجاه الزوايا الأكثر احتراما وخصوصية سواء للجار أو لأهل الدار وكذلك كانت تعامل حين توضع فتحات الشبابيك والنوافذ في الأدوار السفلية بارتفاع مناسب يسمح لأهل الدار من الاستفادة من دخول الضوء والهواء ولا يتسبب في خرق الخصوصية سواء لهم أو للمجاورين لقد عالج المعماري القديم بإدراكه لقيمة وأهمية حسن الجوار في تلك المدن والتي يعتبر طقسها حارا شديدا و رطبا مما يجبرهـ على توسعة فتحات النوافذ والشبابيك بتركيبه رواشين خارجية تفننوا بزخرفتها وصبغها بالألوان المختلفة .
لقد لامست تلك القيمة الإنسانية العالية مواقع أخرى من التراث العمراني فكان جميع أهل المدينة أو القرية يتشاركون مهمة جلب المواد الأولية للبناء من مواقع بعيدة وتجهيزها والمساعدة في أعمال البناء وكلا حسب صنعته والأكثر حسنا في ذلك الجوار هو تلك المناسبات السعيدة التي يحتفل بها الجيران عند كل مرحلة من مراحل البناء حتى إتمامه, يبقى أن أشير إلى أن حسن الجوار كقيمة إنسانية تحكم في المطامع البشرية الطبيعية فكانوا الأهالي يأخذون من الأراضي المحيطة بهم للبناء قدر الحاجة .
حسن الجوار كقيمة إنسانية كان عاملا مؤثرا في التراث العمراني وأضاف له الكثير من الجمال والإنسانية والذي ترتب عليه أن تكون تلك المدن والمساكن حميميه تجاه أهلها وكذلك الآخرين من زوارها الذين يستمتعون بالمرور بها والتجول في ممراتها وبرحاتها وأزقتها المختلفة حتى اليوم.

قال القائل

ناري ونار الجار واحدة      وإليه قبلي تنزل القدر
ما ضر جارا لي أجاوره      أن لا يكون لبابه ستر
أعمى إذا ما جارتي برزت      حتى تواري جارتي الجدر

شارك الصفحة مع الأصدقاء :